تعرَّض الإسلام ، ولا يزال ، لحملات عدائية شتى ، منها موقفه من المرأة ، ولا سيما من ناحية عقلها ، حيث يُتَّهم الإسلام بأنه ينتقص من عقل المرأة وقدراتها ، وانه يحط منها بالمقارنة مع الرجال . هذا في الوقت الذي اثبت فيه العلم عدم وجود أي اختلاف في قدرات التفكير عند المرأة والرجل . كما أن الواقع يشهد بغير ذلك ، حيث وصلت المرأة إلى أعلى المراتب والمناصب ، وحققت إنجازات وإبداعات فكرية عديدة لا سيما في العالم الغربي . مما يعني ببساطة ، كما يزعمون ، أن الإسلام يخالف العلم والواقع المحسوس ، وان أفكاره تتعارض وتتناقض مع هذه المعطيات المحسوسة المشهودة على ارض الواقع .
غير أن هناك من يقول بان المرأة قد أتيحت لها فرصة عظيمة من حيث حرية العمل وإبراز إمكاناتها ، ولكنها لم تُثبت أنها على قدم وساق مع الرجل . فالرجل هو الذي فسح لها هذا المجال من الحرية ، ومع ذلك لم تصل إلى كثير من المناصب العالية التي لا يزال يتربع عليها الرجل . كما انه هو الذي أتى بالأفكار العظيمة والمبادئ والنظريات والاختراعات وغير ذلك مما له شان يذكر .
حديث ناقصات عقل
هذا الحديث رواه الشيخان (البخاري ومسلم) وأصحاب السنن ، وهو صحيح الإسناد والمتن . وقد ورد بألفاظ مختلفة عن عدد من الصحابة منهم ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة .
فقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في باب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : يا مَعْشرَ النساء تَصَدَّقْنَ وأكْثِرْن الاستغفار ، فإني رأيُتكُنَّ أكثر أهل النار . فقالت امرأة منهن جَزْلة : وما لنا يا رسول الله أكثرُ أهل النار؟ قال : تُكْثِرْنَ اللَّعن ، وتَكْفُرْنَ العشير ، وما رأيت من ناقصاتِ عقلٍ ودين أغلبَ لذي لبٍّ مِنْكُن . قالت يا رسول الله وما نقصانُ العقل والدين؟ قال : أما نُقصانُ العقل فشهادة امرأتين تعْدِلُ شهادةَ رَجُل ، فهذا نقصان العقل ، وتَمكثُ الليالي ما تُصلي ، وتُفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين . ومعنى الجَزْلة أي ذات العقل والرأي والوقار ، وتَكْفُرْنَ العشير أي تُنكرن حق الزوج .
الفهم الخاطئ للحديث والمناقض للواقع
من الواضح أن الذين يتهمون الإسلام بأنه ينتقص من عقل المرأة قد بنوا أفكارهم على الحديث السابق . فقد فهموا منه أن النساء ناقصات عقل ، أي أن قدرات النساء على التفكير هي اقل من قدرات الرجال . وهذا جرياً على المعنى الدارج للعقل من انه عضو التفكير ، ولسان حالهم يقول بان جهاز التفكير عند المرأة اضعف من جهاز التفكير عند الرجل ، وان هذا ينطبق على أية امرأة وعلى أي رجل في الدنيا .
ولكن الحديث نفسه ، وجرياً على هذا المفهوم ، يبين أن المرأة لا تقل في عقلها عن الرجل من حيث أنها ناقشت الرسول ، وأنها جزلة أي ذات عقل وافر ، ومن حيث أن الواحدة منهن تَذهب بعقل اللبيب أي الوافر العقل . فكيف تَذهب بعقله إذا لم تكن أذكى منه أو انه ناقص عقل على اقل الاحتمالات؟ .
بالإضافة إلى ذلك فان الإسلام يعتبر أن المرأة والرجل سواء أمام التكاليف الشرعية من حيث الأداء والعقوبة ، فلو كانت المرأة ناقصة عقل ، فكيف يكون أداؤها وعقوبتها بنفس المستوى الذي للرجل ، فهذا ينافي العدل الذي يتصف به الله وينادي به الإسلام . فناقص العقل لا يُكلَّف بمثل ما يكلف به من هو اكمل منه عقلاً ، ولا يُحاسب بنفس القدر الذي يُحاسب به ، على فرض أن الرجل اكمل عقلاً من المرأة .
العقل والتفكير
ما يتبادر إلى الذهن ، أو ما هو دارج على السنة الناس ، هو أن العقل اسم لعضو التفكير ، وليس الأمر كذلك ، فليس في جسم الإنسان عضو اسمه العقل يمكن أن يُشار إليه بالبَنان . فالتفكير كما بيّنا سابقاً عملية متعددة الخطوات والمراحل ، وليس يختص بها عضو معين واحد يصفها وصفاً شاملاً . وإنما هناك اكثر من عضو يمكن أن يشترك في عملية التفكير أو يخدمها ، مثل العين والأذن وباقي الحواس والدماغ وما يرتبط به من الذاكرة والتخيل وغير ذلك .
ولم تُستخدم كلمة العقل في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة لتشير إلى عضو التفكير مطلقاً ، كما لم ترد كلمة العقل على المصدرية في القرآن الكريم . وإنما استُخدمت هذه الكلمة بصيغة الجمع على : يعقلون وتعقلون ونعقل وعقلوه ويعقلها ، وذلك في تسع وأربعين موضعا . ولم ترد بصيغة الماضي إلا مرة واحدة ، ووردت في باقي المواضع بصيغة الحاضر أو المستقبل . والمعنى المستفاد من هذه الصيغ غالبا هو لفت الانتباه للتفكير من اجل إدراك العاقبة واتخاذ خطوة نحو العمل . وهو بذلك يكون في معناه أوسع من مجرد التفكير ؛ فنحن إذا فكرنا ننتج الفكرة ، أما إذا عقلنا فندرك ما وراء هذه الفكرة من أبعاد متعلقة بالتصديق والعمل . فالسمة الأساسية للعقل وفق اصطلاح الكتاب والسنة هي إدراك العاقبة المنشودة والعمل لها والثبات على ذلك .
وقد لخص ابن تيمية رحمه الله المعنى اللغوي والشرعي للعقل احسن تلخيص فقال في الفتاوى : "العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً ، يراد به القوة التي يعقل بها ، وعلوم وأعمال تحصل بذلك . وهو علم يعمل بموجبه ، فلا يسمى عاقلا من عرف الشر فطلبه والخير فتركه" . أما الأحاديث المتعلقة بالعقل فلم يصح منها شيء ، فقد قال ابن حبان البستي : " لست احفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خيرا صحيحا في العقل " . وقال ابن تيمية :" أما حديث العقل فهو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة" .
التفكير عند المرأة والرجل
لا تَدُل معطيات العلم المتعلقة بأبحاث الدماغ والتفكير والتعلم على أي اختلاف جوهري بين المرأة والرجل من حيث التفكير والتعلم . كما لا تدل على اختلافٍ في قدرات الحواس والذكاء ، ولا في تركيب الخلايا العصبية المكونة للدماغ ، ولا في طرق اكتساب المعرفة . فلم تظهر الأبحاث المتعلقة بالدماغ فروقا جوهرية ، إلا في حدود ضيقة لا تتجاوز ربع انحراف معياري واحد . فقد أكدت كثير من الأبحاث تماثل نصفي الدماغ عند النساء بشكل اكبر منه عند الرجال ، لكن لم يتأكد أي شيء يدل على اختلاف في التفكير بناء على ذلك . معنى هذا أن المرأة والرجل سواء بالفطرة من حيث عملية التفكير ، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا في الفروق الفردية ، أي في مستوى الذكاء ودرجته وليس في نوعيته .
التغيرات الجسدية والنفسية التي تتعرض لها المرأة
تتعرض المرأة لتغيرات جسدية كثيرة ومتكررة ، يمكن أن يترتب عليها تأثيرات نفسية تتعرض لها المرأة نتيجة مرورها بهذه الأحوال الجسدية . فقد أكدت كثير من الأبحاث الطبية أن التغيرات الجسدية التي تمر بها المرأة تؤثر على نفسيتها فتعرضها للإصابة بالإحباط وقلة التركيز والكسل وتأثر الذاكرة قصيرة المدى عندها . كما قد تؤثر على سرعة الانفعال عندها ، وتصيبها بالقلق والوهن وتغير المزاج والتوتر والشعور بالوحدة والبلادة وثقل الجسم . هذا بالإضافة إلى التغيرات التي تحصل في العوامل المؤثرة في الحركة والعمل والنشاط الذهني كدرجة الحرارة والضغط وزيادة الإفرازات الهرمونية المختلفة .
ماذا نستنتج من كل ذلك؟
• ليس في الآية ولا في الحديث ما يدل على أن قدرات التفكير عند المرأة اقل من قدرات الرجل ، ولا أن الرجل يفكر بالنيابة عن المرأة . وهذا عام في باقي نصوص الكتاب والسنة بدليل الخطاب الإيماني العام لكل من الرجل والمرأة ، مما يؤكد على الوحدة الإنسانية في العقل والغرائز والحاجات العضوية عند كل منهما . هذا بالإضافة إلى العديد من النصوص التي تدلل على قدرة المرأة على التفكير والتصرف في احلك المواقف ، وهذا كثير في كل من الكتاب والسنة . وأما النصوص التي تجعل للرجل قوامة وميزات أخرى ، فهي أحكام شرعية تتناسب مع طبيعة المجتمع الإسلامي ، وليس لها علاقة بالقدرات العقلية .
• يشير الحديث إلى أن النساء ناقصات عقل ، لكنه يعلل ذلك بكون شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد . وفي هذا إحالة إلى آية الدّيْن ، والتي تعلل الحاجة إلى امرأتين بالضلال والتذكير . والضلال هو العدول عن الطريق المستقيم ، ومنه النسيان ، وقد يؤدي إليه . والتذكير فيه لفت الانتباه ، ويتأثر بالحالة النفسية وقد تحجبه كليا عن رؤية الحق والواقع . فالذي لا يرى إلا جانباً معيناً من الواقع ولا يرى غيره يكون تفكيره ناقصا سواء كان رجلاً أو امرأة .
• الكلام في كل من الآية والحديث هو عن أحكام إسلامية في مجتمع مسلم ، والمرأة بحكم طبيعتها وعيشها في المجتمع الإسلامي خاصة تكون خبرتها اقل من الرجال إجمالاً أي من حيث المعلومات وتعلقها بالواقع المعين ، لا سيما في المجالات التي يقل تواجدها فيه . لذلك كان لا بد من الاستيثاق في الشهادة ليرتاح صاحب المعاملة المالية من حيث ضمان حقه .
• إذا ما أخذنا في الحسبان كل هذه الحقائق والوقائع ثم قابلنا بينها وبين واقع العقل والتفكير وواقع الآية والحديث ، فإننا نخلص إلى أن نقص العقل ليس هو في قدرات التفكير ولا في تركيبة الدماغ ، وانما في العوامل المؤثرة في التفكير والعقل . وهو ينحصر على وجه التحديد في الخبرة ومنها المعلومات وفي موانع التفكير ؛ فان كون المرأة المسلمة بعيدة عن واقع المجتمع والمعاملات المالية بالذات ، فلا بد أن خبرتها اقل من الرجال المنخرطين في هذه المعاملات . كما أن المرأة تمر في تغيرات جسمانية تؤثر على حالتها النفسية ، هذا بالإضافة إلى عاطفتها الزائدة والتي يمكن أن تجعلها تنحاز في تفكيرها وفي قراراتها ، كما لو كان المعني بالأمر ابنها مثلا فلا بد أنها ستميل إليه .
• إذن فالحديث عن أن المرأة ناقصة عقل جاء بالإشارة إلى آية الدين ، ولا يعني أن الرجل لا يمكن أن يوصف بمثل هذا الوصف . بل هناك آيات قرآنية تنفي العقل عن كبراء القوم وعظمائهم من الكفار والمنافقين وأهل الكتاب . وهذا يعني أن الأمر طبيعي وليس فيه أن قدرات المرأة على التفكير اقل من قدرات الرجل ولا أنها ناقصة عقل بالمفهوم الشائع . فليس في نصوص الكتاب والسنة ما يشين المرأة من هذه الناحية ولا ما يحط من قدرها أبدا .