ان ظاهرة العنف الاسري ، التي كانت تعتبر " طابو " اجتماعي وشئ ينظر اليه انه شأن داخلي ، ومن المواضيع المسكوت عنها اصبحت في ظل التطور الحضاري مسألة مكشوفة وموضوعة على طاولة البحث والتدقيق والمسائلة والادانة ، بحيث انها في العقد الاخير من القرن العشرين ، اضحت اهم المسائل التي انيط عنها اللثام ، وزعزعت سلطتها التي تخفي وراءها مجموعة من الممارسات اللاانسانية .
ذلك ان عبارة " العنف الاسري " تحمل في طياتها تناقضا في الدلالة والمعنى ، فالاسرة ترتبط عادة بمعاني المحبة والمودة وليس بالعنف والصراع .
فالعنف الاسري يشكل خطورة كبيرة على حياة الفرد والمجتمع ، فهو من جهة يصيب الخلية الاولى في المجتمع بالخلل ، مما يعيقها عن اداء وظائفها الاجتماعية والتربوية الاساسية في احسن الاحوال وافضل الظروف ، وهو من جهة ثانية يساعد على اعادة انتاج انماط السلوك والعلاقات الغير السوية بين افراد الاسرة ، هذا يستوجب الاهتمام العلمي بهذه الظاهرة ، لتحليل ووصف اسبابها والياتها .
وعلى الرغم من تعدد اشكال العنف الاسري بتعدد الاطراف المكونة للعلاقات الاسرية ، فان الاهتمام كثيرا ما ركز على الطفل والمراة نظرا لطبيعة الصلة التي تحكم علاقة الرجل بهما ، سواء داخل الاسرة او في المجتمع بشكل عام .
مفهوم العنف الاسري :
من الصعب تحديد مفهوم العنف الاسري تحديدا دقيقا ، غير انه يمكن القول بانه هو العنف الموجه لواحد او اكثر من افراد الاسرة ذاتها او احد منها ، او بعبارة اخلى هو كل اشكال السلوك العدواني الذي تترتب عنه علاقات قوة غير متكافئة داخل المحيط الاسري .
السياق الدولي للظاهرة :
بتاريخ 17 دجنبر 1999 ، اعلنت الجمعية العامة للامم المتحدة بواسطة القرار رقم 54/134 ، يوم 25 نونبر من كل سنة ، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المراة ، كما دعت بنفس القرار الحكومات والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية لتنظيم نشاطات معدة خصيصا لزيادة الوعي بالمشكلة في ذلك اليوم .
وبالاضافة الى ما ذكر اعلاه ، واعتبارا للدور الهام الذي قامت به الحركة النسائية عبر العالم في الكشف عن هذه الظاهرة والتي تعد النتهاكا لحقوق الانسان ، يمكن الاشارة الى خطط العمل لكل المؤتمرات التي عقدت في التسعينات ومحطاتها التقنييمية في هذا المجال .
العنف الاسري في العالم العربي :
يعتبر العنف الاسري ظاهرة غريبة وجديدة على مجتمعاتنا العربية ، طرقت ابوابنا في الاونه الاخيرة بشدة ، وذلك ناتج لما اعترى وظيفة التنشئة الاجتماعية في النظام الاسري من تغيرات نشات كظواهر سلبية للحضارة الحديثة ، ويكمن مصدر الخطر في ظاهرة العنف الاسري في انها مؤشر لفشل عملية التنشئة الاجتماعية التي تعد من بين العمليات الرئيسية التي تحافظ على بناء المجتمع وامنة .
ومما لاشك فيه ، فان العنف الاسري وخاصة العنف ضد النشاء يشكل ذروة الضعف والعجز عن التواصل والعدوانية واللا انسانية التي يمكن ان يقوم بها البشر ، لانها تسير في الاتجاه المعاكس لما يجب ان يحظى به الانسان من كرامة ، وما يجب ان يتصف به من عفة ، سواء في التصرف او التعامل .
لكن بالرغم من اهتمام النصوص الدولية لحقوق الانسان بموضوع العنف الاسري ، وبالرغم من مصادقة معظم الدول العربية على هذه النصوص ، وبالرغم من النضالات والاعترافات والمفاهيم الجديدة ، الا ان العنف الاسري في المجتمعات العربية ما يزال حاضرا في الحياة اليومية ، بكل اشكالة وانواعة وفي كل المجالات والامكنة .
وعلى الرغم من ان هذه الظاهرة منتشرة ومعروفة في كل المجتمعات المتقدمة منها والمختلفة ، فان الاحصائيات الدقيقة لحجم انتشارها في العالم العربي غير معروفة ، لما ينتابها من تستر ورغبة في عدم الافشاء احيانا على اعتبار ان الخلافات الاسرية وخباياها الحميمة لا ينبغي " في نظر البعض " ان تفشى ، او مخافة التعرض للمزيد من العنف بعد التشهير واعلانة .
اسباب العنف الاسري :
هناك سببين رئيسيين : اسباب عامة واخرى خاصة .
الاسباب العامة :
تعقد الحياة العصرية .
تغير العلاقات الاجتماعة.
طغيان المادة والروح الاستهلاكية على العلاقات في نمط الحياة .
الاسباب الخاصة :
ضعف الضبط الاسري ( تخلي الاسرة عن دورها )
تغير شكل الاسرة ( من الاسرة الممتدة الى النواة)
التفكك الاسري .
مفاهيم ومظاهر العنف الاسري :
يعتبر العنف عموما ظاهرة من ظواهر الحياة المعاصرة التي تعج بالمشكلات والصعوبات والاحباطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية ، مما يؤدي الى القلق والتوتر ومن ثم الى العنف .
تصورات الباحثين حول مفهوم العنف :
من المنظور النفسي :
هناك من علماء النفس ، وخاصة اتباع مدرسة التحليل النفسي ، من يعتبر العنف نوعا من ردود الفعل الطبيعية على اساس ان هناك علاقة ارتباط بين العنف والغرائز الدنيا لدى الفرد ، ويتدلون على ذلك من وجود مؤشرات للعنف لدى الاطفال وحتى الرضع منهم .
من المنظور الاجتماعي :
يعتبر العنف ظاهرة اجتماعية تتكون من عدد من الافعال التي يقوم بها مجموعة من الافراد في اطار معين مدفوعين بانفعالات معينة ، ملحقين الاذى بالاخرين من اجل تحقيق مصلحة معنوية او مادية .
ومن المنظور الاجتماعية ياتي المنظور القانوني الذي يعرف العنف على انه الاستعمال غير القانوين لوسائل ابتغاء تحقيق غايات شخصية او جماعية .
هكذا يتجه عدد من علماء الاجتماع الى الاهتمام بدراسة القيم، على اعتبار انها تعد تعبيرا عن التنظيم الاجتماعي . فالعنف الاسري يمكن ان يشمل كافة افراد الاسرة :
1. الزوج او الزوجة : فالزوج يمارس العنف ضد الزوجة باعتبار ذلك نوعا من العقوبة لخروجها على نظام الاسرة ، وقد تمارس الزوجة العنف ضد الزوج بسبب فعل يمسها .
2. الوالدين او احدهما مع الابناء .
3. الابناء ضد الاباء .
4. الابناء فيما بينهم .
ومن طبيعة العلاقات الاجتماعية ، انها تتضمن بدرجة او باخرى بعض الاختلافات في التوجهات والرؤى بسبب الاختلافات الفردية .
وطالما وجدت الاختلافات ، فان احتمالات العنف قائمة ، ومن هنا فان الوقاية من العنف لا تعني منعه نهائيا ، بل تعني حصره في اضيق نطاق ، وارتباطا بهذه الفكرة ، تثار مسالة اخرى وهي درجة العنف ، ومن هذا المنظور ، فان الوقاية من العنف تعني خفض هذه الدرجة الى الادنى .
نحو فهم افضل للمقصود بالوقاية من العنف الاسري :
هل الوقاية من العنف الاسري تعني منع حدوثة :
ان العنف هو سلوك ، والعنف الاسري يتخذ اشكالا سلوكية متعددة لكنها تتدرج تحت فئتين رئيسيتين : الاولى تشمل الافعال والثانية تشمل الالفاظ الجارحة ، ومن طبيعة العلاقات الاجتماعية انها تتضمن بدرجة او باخرى بعض الاختلافات في التوجيهات والرؤى بسبب الاختلافات الفردية ، فليس هناك شخصان متطابقان تمام التطابق في الخبرات والمكونات الثقافية والاجتماعية .
ولارساء قواعد راسخة لتحليل العنف الاسري وترسيخ الوعي الاجتماعي للوقاية منه ، وعلى ضوء ادبيات علم لاجتماع العائلي يمكن صياغة المعادلة التالية :
العنف الاسري = التكرار + الطريقة + الدرجة + العدد + الشخصيات + الموضوع + الظروف .
التكرار : هو معدل تكرار حدوث العنف خلال فترة زمنية معينة .
الطريقة : هي طريقة التعبير عن العنف ، او الشكل الذي يتخذه العنف .
الدرجة : هي مدى الشدة في التعبير عن العنف .
الشخصيات : يقصد به السياق الذي حدث فيه العنف.
الموضوع : يقصد به المسالة او القضية التي بسببها حدث العنف .
الظروف : يقصد به السياق الذي حدث فيه العنف .
لقد درج العلماء الاجتماعيون على دراسة وتحليل العنف الاسري من جوانب مختلفة .
ومن المنظور العلمي الحديث ، فان الشخص بامكانة ان يسيطر على سلوكه، وتؤكد ذلك العديد من النظريات المستمدة من عدة دراسات ، فهو يتمتلك العقل والارادة في توجيه سلوكة نحو وجهة معينة.
الوقاية من العنف الاسري :
ان الوقاية من العنف الاسري يتضمن جانبين اساسيين :
تقليل المواقف الاسرية التي يظهر فيها العنف .
تخفيض درجة التعبير عن العنف .
وبالنسبة للجانب الاول ، هناك قاعدة متعارف عليها في العلوم الاجتماعية ، وهي ان الصفر المطلق ليس له وجود عند قياس الظواهر الاجتماعية ، هذه القاعدة تتطبق على العنف الاسري والعلاقات الاجتماعية عموما.
كيف يمكن ضبط المكونات المؤدية الى العنف الاسري وبالتالي الوقاية من هذا العنف ؟
ان الوقاية من العنف الاسري تكون من خلال استراتيجيتين متفاعلتين هما :
1. ضبط السلوك .
2. التزام افراد الاسرة بمبدا الحق الواجب.
ضبط السلوك :
عندما نقول ضبط السلوك ، فان المقصود بذلك هو ان يسيطر الشخص على سلوكة ، هذا السلوك يشمل كل الانشطة الظاهرة التي يقوم بها الشخص ، وتسمى الافعال .
ومن المنظور العلمي الحديث ، فان الشخص بامكانه ان يسيطر على سلوكه ، وتؤكد ذلك العديد من النظريات المستمدة من دراسات حديثة .
الالتزام بمبدا الحق الواجب :
انه ضبط السلوك في اتجاه الالتزام بالحقوق والواجبات الاسرية ، فكل فرد من افراد الاسرة عليه واجبات لا بد ان يقوم بها اتجاه بقية الافراد ، كما ان له حقوقا عليهم .
هكذا يتأكد بان العنف الاسري ظاهرة متعددة المكونات ، وللوقاية منه لا بد ان يضبط افراد الاسرة سلوكهم صوب وجهة معينة هي التزام كل منهم بواجباته وحقوقه اتجاه بقية الافراد .